الحاسد والمحسود

By : Ibnu Hasan
Dikutip dari kitab Nusus

فصل من كتاب الرسائل للجاحظ
            هو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني المتكلّم المعتَزلي، المعروف بالجاحظ لجحوظ عينيه، والذي إليه  تنسب الفرقةُ الجاحِظيّة، وكان ردئ الاعتقاد، تُوفيّ سنة 255 هـ، وقد تجاوز التسعين من العمر، وكان ينشد:
أ ترجو أنْ تكونَ  وأنت شيخٌ          كما قد كنت أيامَ الشبابِ
لقد كذبتك نفسُك ليس ثوبٌ          دريسٌ كالجديدِ من الثّياب
أتقن علوماً كثيرة، وصنف كُتباً جمّة تدل على قوة ذهنه، إلا أنّ الكثير منها مليئةٌ بالأهواء والضّلالات، ومن أجلّ كتبه؛ "البيان والتِّبيان" و"الحيوان"  و"المحاسن" و"الأضداد"، ومنها "السائل" الذي نأخذ منه النصّ التالي:
" وهب الله لك السّلامة. وأدام لك الكرامة، ورزقك الاستقامة، ورفع عنك الندامّة. كتبت إلي – أيّدك الله – تسألني عن الحسد ما هو؟ ومن أين هو؟ وما دليله وأفعاله؟ وكيف تعرف أموره وأحواله، وبِمَ يُعرف ظاهره ومكتومُه، وكيف يُعلم مجهوله ومعلومه، ولِما صار في العلماء أكثرُ منه في الجُهلاء؟ ولما كثرَ في الأقرباءِ وقلّ في البُعداء؟ وكيف دبَّ في الصالحين أكثر منه في الفاسقين؟ وكيف خصّ به الجيران من بين أهل جميع الأوطان؟.
الحسد – أبقاك الله – داءٌ ينهَك الجسدَ، ويفسد الوُدّ، علاجه عسر، وصاحبه ضجر. وهو باب غامضٌ وأمر متعذّر، وما ظهر منه فلا يُداوى، وما بطن منه فمداويه في عناء. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:( دبَّ إليكم داءُ الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء )... ويروى عن الحسن أنه قال: الحسد أسرع في الدين من النار في الحطب اليابس. وما أُتِي المحسودُ من حاسده إلا من قِبَلِ فَضلِ الله عنده، ونِعَمه عليه قال الله عز وجلّ: " أم يحسدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضلِه فقد آتينا آل إبراهيمَ الكتاب والحِكْمةَ وآتَيناهُم مُلكاً عَظِيْماً ".
والحسدُ عَقيدُ الكفر، وحليفُ الباطلِ، وضدُّ الحقِ، وحربُ البَيانِ. فقَدْ ذمَّ الله أهل الكتاب به فقال:" ودَّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يَردُّونَكم من بعدِ إيمانِكم كُفارًا حسدًا من عند أنفسهم ". منه تتولد العداوة، وهو سبب كلّ قطيعةٍ، ومنتج كل وحشة، ومفرّق كل جماعة، وقاطع كلّ رحمٍ بين الأقرباء، ومحدث التفرُّق بين القُرناء، ومُلَقِّح الشر بين الخُلطاء، يكمن في الصدر كمونِ النّار في الحجر... والحسد – رحمك الله - ... أول معصية حدثت في الأرض... فابنا آدم قتل أحدهما أخاه، فعصى ربه وأثكل أباه. وبالحسد طَوّعَتْ له نفسه قتلَ أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين...
ومن شأن الحسد إن كان المحسود غنيا أن يُوبِّخه على المال فيقول: جمعه حراما ومنعه أثاما...وإن وجد له خصما أعانه عليه ظلماً، وإن كان ممن يعاشره فاستشاره غشّه...وإن حضر مدحه ذمّه وإن سئل عنه همزه، وإن كانت عنده شهادة كتمها... وإن كان المحسود عالما قال: مبتدع، ولرأيه مُتّبِع، حاطب ليل ومبتغي نيل، لا يدري ما حمل، قد ترك العمل... وإن كان المحسود ذا دين قال: مُتصنِّع يغزو ليوصى إليه، ويحج ليثنى بشيء عليه، ويصوم لتُقبلَ شهادته، ويُظهر النُّسكَ ليودّع المال بيته، ويقرأ في المسجد ليزوّجه جاره ابنته، ويحضر الجنائز لتعرف شهرته. 
وما لقيت حاسدا  قط إلا تبيّن لك مكنونُه بتغيير لونه، وتخوص عينه، وإخفاء سلامه، والإقبال على غيرك، والإعراض عنك، والاستثقال لحديثك، والخلاف لرأيك. وكان عبد الله بن أبي قبل نفاقه نسيج وحده لجودة رأيه وبعد همته ونبل شيمته... فلما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وقدم المدينة، ورأى هو عِزّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شمخ بأنفه فهدم إسلامه لحسده، وأظهر نفاقُه. وما صار منافقاً حتى كان حسوداً، ولا صار حسودا حتى صار حقودا. فحمُق بعد اللب، وجهل بعد العقل، وتبوّأ النار بعد الجنة.
ولقد خطب النبي صلى لله عليه وسلم بالمدينة فشكاه إلى الأنصار. فقالوا: يا رسول الله لا تلمْه، فإنا كنا عقدنا له الخزر قبل قدومك لنُتَوجَه. ولو سلم المخذول قلبه من الحسد لكان من الإسلام بمكان... ولذلك قال القائل:
                         طالَ على الحاسـدِ أحزانُه        فاصفَرَّ من كَثرةِ أحزانِه
 دعه فقد أشعلَتْ  في جوفِه       ما هاجَ  من حرِّ  نِيرانِه
 العيبُ أشهَى  عندَه  لـذّةً       من  لذّةِ المـالِ لِخزانِه
فصل في حسد الجيران.
وذلك أن الجيران – يرحمك الله -  طلائع عليك، وعيونهم نواظر إليكن فمتى كنت بينهم مُعدماً فأيسرت، فبذلت وأعطيت، وكسوت وأطعمت، وكانوا في مثل حالك فاتّضعوا، وسُلبوا النعمةَ وأُلبستَها أنت، فعظُمت عليهم بلية الحسد، وصاروا منه في تنغيص آخر الأبد.
فصل منه.
وأنا أقول حقاًّ: ما خالط الحسد قلبا إلا لم يمكنه ضبطه، ولا قدر على تسجينه وكتمانه، حتى يتمرّد عليه بظهوره وإعلانه، فيستعبده ويستميله، ويستنطقه لظهوره عليه فهو أغلب على صاحبه من السيد على عبده، ومن السلطان على رعيته، ومن الرجل على زوجته، ومن الآسر على أسيره...
فصل منه.
وكيف يصبر من استكن الحسد في قلبه على أمانيه! ولقد كان إخوة يوسف حلماء، وأجلّة علماء، ولدَهم الأنبياء، فلم يغفلوا عما قدح في قلوبهم من الحسد ليوسف، حتى أعطوا أباهم المواثيق المؤكدة، والعهود المقلدة، والأيمان المغلظة، إنهم له لحافظون، وهو شقيقهم وبضعة منهم، فخالفوا العهود، ووثبوا عليه بالظلم والقوة، وألقوه في غَيابة الجُبّ، وجاءوا على قميصه بدم كذبٍ، فبظلمهم يوسف ظلموا أباهم، طمعاً أن يخلو لهم وجه أبيهم ويتفردوا بحبه، وظنوا أن الأيام تسلية، وحبَّه لهم من بعد غمّه يلهيه، فأسالوا عَبرته وأحرقوا قلبه.
وكيف لا تقر أعين المحسودين بعد يوسف وقد ملّكه خزائن الأرض، بصره على أذى حُسّاده ومقابلته إياهم بالعفو والمكافأة، وحسن العشرة والمواخاة، بعد إمكانه منهم لما أتوه ممتارين، ووفدوا عليه خائفين وهم له منكرون، فأحسن رفدهم، وأكرم قِراهم، فأقرّوا له لما عرفوه بالإذعان، وسألوه بعد ذلك الغفران، وخَرّوا له سُجدا لما وردوا عليه وفدا.
فإذا أحسست – رحمك الله – من صديقك بالحسد فأقلل ما استطعت من مخالطته، فإنه أعون الأشياء لك على مسالمته، وحصِّن سرّك منه تسلم من شره وعوائق ضره. وإياك والرغبة في مشاورته... فإن ذلك من حبائل نفاقه. فإن أردت أن تعرف آية مصداقه فأدنين إليه من يهينُك عنده، ويذمك بحضرته، فإنه سيظهر من شأنه لك ما أنت به جاهل، ومن خلاف المودة ما أنت عنه غافل. وهو ألح في حسده لك من الذباب... وما أحب أن تكون عن حاسدك غبيا، وعن وهمك بما في ضميره نَسِيا... أو تكون بك إليه حاجة قد صيرتك لسهام الرماة هدفا، وعرضك لمن أرادك غرضا. وقد قيل على وجه الدّهر:" الحرة تجوع ولا تأكل بثدييها ".
فصل منه.
ومتى رأيت حاسدا يصوب إليك رأيا إن كنت مصيبا، أو يرشدك إلى صواب إن كنت مخطئا، أو أفصح لك بالخير في غيبته عنك، أو قصر من غيبته لك! فهو الكلب الكلب، والنمر النمر والسم القشب... والسيل العرم. إنْ ملك قتل وسبى، وإن ملك عصى وبغى. حياتك موته، وموتك عرسه وسروره... لا يحب من الناس إلا من يبغضك، ولا يبغض إلا من يحبك. عدوك بطانة، وصديقك علانيته. 
وقلت: إنك ربما غلطت في أمره لما يظهر لك من برّه... ولكني أخاف أن قلبك لصديقك غير مستقيم، وأن ضمير قلبك له غير سليم، وإن رفعت القذى عن لحيته، وسوّيت عليه ثوبه فوق مركبه، وقبّلت صبيّه بحضرته، ولبست له ثوب الاستكانة عند رؤته، واغتفرت له الزلة، واستحسنت كل ما يقبح من جهتِه، وصدقته على كذبه... فما هذا العَناء! كأنك لم تقرأ المعوّذة، ولم تسمع مخاطبته نبيه صلى الله عليه وسلم في التقدمة إليه بالاستعاذة من شر حاسد إذا  حسد...
إن كنت تجهل بعد ما أعلمناك، وتَعْوَجُّ بعد ما قوّمناك، وتبلد بعد ما ثقّفناك، وتضل إذ هديناك، وتنسى إذ ذكرناك، فأنت كمن أضلّه الله على علم فبطلت عنده المواعظ، وعمي عن المنافع، فختم على سمعه وقبله، وجعل على بصره غشاوة. فنعوذ بالله من الْخُذلان... فإذا كان الأمر على هذا فمجاورة الموتى، ومخالطة الزمنى، والاجتنان بالجدران، ومصر المصران، وأكل القِردان، أهون من معاشرته، والاتصال بحبله.
والغل نتيج الحسد، وهو رضيعه، وغصن من أغصانه، وعون من أعوانه، وشعبة من شعبه، وفعل من أفعاله، كما أنه ليس فرع إلا له أصل، ولا مولود إلا له مولد، ولا نبات إلا من أرض، ولا رضيع إلا من مُرضِع، وإن تغير اسمه؛ فإنه صفة من صفاته، نبت من نباته، ونعت من نعوته.
ورأيت الله جل جلاله ذكر الجنة في كتابه فحلاّها بأحسن حلية، وزيّنها بأحسن زينة، وجعلها دار أوليائه ومحلّ أنبيائه، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فذكر في كتابه ما منّ به عليهم من السرور والكرامة عندما دخلوها وبوّأها لهم، فقال:[ إنَّ المتّقينَ في جنتٍ وعُيونٍ. ادخلُوها بسلامٍ آمنين. ونَزعْنا ما في صدورهِم من غلٍّ على سرور متقابلين. لا يمسّهم فيها نَصبٌ وما هم منه بمخرَجين ".
فما أنزلهم دار كرامته إلا بعد ما نزع الغلّ والحسد من قلوبهم، فتهنّوا بالجنة، وقابلوا إخوانهم على سرر، وتلذذوا بالنظر في مقابلة الوجوه لسلامة صدورهم، ونوزع الغلّ من قلوبهم. ولو لم ينزع ذلك من صدورهم ويخرجه من قلوبهم، لافتَقدُوْا لذاذة الجنّة، وتدابروا وتقاطعوا وتحاسدوا، وواقعوا الخطيئة، ولمسّهم فيها النّصب، وأعقبوا منها الخروج؛ لأنه عز وجلّ فضّل بينهم في المنازل، ورفع درجات بعضهم فوق بعض في الكرامات...
فلمّا نُزع الغِلُّ والحسد من قلوبهم ظنّ أدناهم منزلةً فيها، وأقربُهم بدخول الجنّة عهداً أنه أفضلهم منزلةً، وأكرمهم درجة، وأوسعهم داراً بسلامة قلبه، ونزع الغل من صدره، فقرّت عينه وطاب أُكلُه. ولو كان غير ذلك لصاروا إلى التنغيص في النظر بالعيون، والاهتمام بالقلوب، لحدثت العيوب والذّنوب.
وما أرى السلامة إلاّ في قطع الحاسد، ولا السرور إلا في افتقاد وجهه، ولا الرّاحة إلا في صرم مُدارته، ولا الرّبح إلاّ في ترك مُصافاته ".

0 komentar: